انطلاقاً من مشاهدات و ملاحظات من وسط المجتمع الغربي، تبين لي أن هناك تصاعد مثير للمثلية كخطاب و كممارسة و كإيديولوجية جديدة تحاول أن تستثمر إرث الأنوار و الحرية و تقدم نفسها على أنها خط و شعار للبطولة ضد القدامة و الظلام.
لا تكاد تجد أي عرض فني أو مسرحي أو نشاط ثقافي بدون أن يكون موضوع المثلية الجنسية حاضرا بقوة..نفس الأمر ينطبق على الأفلام الأعمال السينمائية و التي باتت تروج بشكل ملفت للمثلية و يكفي متابعة الافلام المقترحة مثلاً عبر منصة netflex للوقوف على هذه الحقيقة.
و أنا أتابع امس هذا العرض المسرحي في الهواء الطلق في باحات قصر الروان بستراسبورغ الذي كان عنوانه : ne le dis surtout pas ..يجب أن أعترف بان الأداء و الإخراج الفني كان جميلًا جداً ..لكن الذي يهمني هو مناقشة الموضوع في العمق معرفيًا .. العرض عبارة عن تصوير دراماتيكي رومنسي لمشاهد من حياة المثلي و الاقصاء الذي يعيشه في المجتمع يبحث من خلاله كاتب النص عن استعطاف المشاهد و تصوير المثلي على أنه ضحية مجتمع متخلف محافظ لا يؤمن بالحرية ..
شخصياً اعتقد من الناحية المبدئية ان الأفراد أحرار في اختياراتهم، هذا نقاش محسوم و لا أحد يجب ان يفرض على أي كان نمطًا معينا ً في الحياة! لكن النقاش لا ينتهي هنا، هذا لا يعني بأن مناقشة هذا الاختيار و تبيان تهافته و خور مستنداته و عدمية مرجعيته من حق الجميع في إطار الاحترام و التوقير اللازم بالطبع..
الإشكال عندي مع هذا العرض هو تصويره لكل من يعارض المثلية بأنه متخلف و متحجر و بأن المثلي او المدافع عن المثلية أصبح عنوان للتحرر و الأنوار الجديدة في مجتمع الظلام و التخلف..كما لم يخل العرض من ازدراء الاديان خصوصاً في لحظة معينة مرتجلة دق فيها جرس كنيسة قريبة من مكان العرض ..
هناك زوايا نظر مختلفة للموضوع و لا أريد مناقشة الموضوع من الزاوية العلمية الجينية التي غالباً ما يحشر فيها الموضوع في اطار ثنائية هل الامر خلقي طبيعي ام ثقافي مكتسب .
الحديث عن الموضوع سيكون اكثر فائدة من زاوية نظر فلسفية و أخلاقية، لا شك أن هناك اشكالات ثقيلة في العقل الغربي مرتبطة بجدل التأسيس العقلاني في النظرية الأخلاقية المعاصرة و الحاجة الى اللاهوت من عدمه.المثير عندي بخصوص العمل المسرحي الذي شاهدته هو تصوير المثلية باعتبارها بطولة و انتصار على قيم مجتمعات محافظة متخلفة و أنها تعبير اسمى عن الحرية في الاختيار و انتصار للأنوار في مقابل الظلام و الرجعية. في الحقيقة انا كنت اشاهد العرض و متحيز معرفيا لبعض الافكار التي قرأتها عند الدكتور المسيري في توصيفه للعلمانية الشاملة اتخذتها كمرجعية استند اليها و أحلل على ضوئها في حوار داخلي أثناء العرض .. في المشهد الذي يصور المثلية على انها بطولة و تعبير عن الارادة الحرة الفردية حضرتني فكرة مهمة الدكتور المسيري يقول فيها: “في المجتمعات الاستهلاكية، يتم إغواء الإنسان بأن حقه الأساسي هو الاستهلاك، وأن إشباع اللذة هو أقصى تعبير عن الحرية الفردية” فالحفاوة التي قوبل بها المشهد من جمهور أغلبه يناصر فكرة المثلية تبين أنه تم إقناع الإنسان الغربي بأن إشباع اللذة من دون قيود اجتماعية او أخلاقية أو دينية هو حق و تعبير عن الحرية الفردية..”
يذكر أن الدكتور المسيري في أحد الأشرطة أنه في رسالته للدكتوراه في جامعة روتجرز في الولايات المتحدة الأمريكية، تنبأ بانعطاف الممارسة الجنسية في الغرب نحو «المثلية»، حيث أطلق المسيري على تلك الثورة المثلية، الحتمية بحسبه، تعبير «الشذوذ الجنسي البروتستانتي». لماذا رأى المسيري حتمية هذا التحول؟
بنى المسيري نظريته تلك على أساس اعتماد الحضارة الغربية على اللذة كمعيار للقيمة، ولذلك فإن الجنس الغيري بحسب ذلك المعيار يصير خطرًا، لأن تلك العلاقة مع الآخر يترتب عليها عطاء مقابل الأخذ، ومسئوليات اجتماعية، وربما أحيانًا تعني الإنجاب وتربية الأطفال، وهو ما يعني مجموعة من القيم الثابتة تتجاوز مفهوم اللذة الكاملة.
لم تكن هناك مؤشرات في المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت على ما يدعم استشراف المسيري الذي قدمه في أطروحته سوى فقط دراسته للشاعر الأمريكي والت ويتمان الذي ذكر نصًا في إحدى كتاباته الشخصية التي اطّلع عليها المسيري أثناء دراسته: «أنه أصبح شاذًا جنسيًا لأسباب أيديولوجية، لأنه يرى أن ذلك هو الحرية الحقيقية» ومنذ سنة تقريباً من تواجدي في المجتمع الغربي و تجولي في العديد من المدن الروبية، تبين بالملموس صدق تنبأ الراحل المسيري حيث أصبحت المثلية رمز للتحرر و اصبح علم المثلية يوفر في الحقائب و الاكياس كتعبير عن مساندة هذه القضية.
المسألة عند الدكتور المسيري يجب أن ينظر إليها من وجة نظر معرفية، و من جانب مرتبط بتحديد المرجعية و الأرضية التي ينطلق منها كل رأي و هو ما يحيلنا الى حسم النقاش من خلال تبني إما مرجعية تعتبر الانسان مادة وحسب تطورت طبيعيًا تمركزه و تجعله مركزا للعالم و مرجعية تعترف بالجانب المادي في الإنسان و تضيف اليه البعد الروحي الغيبي المرتبط بنفخة الله و تجعل هذا الإنسان يعيش في إطار عالم ليس هو مركزه بل هو جزء من عالم فيه إله و غيب و أمانة و بعث و جزاء و عقاب و التزامات أخلاقية تؤطر حياة الانسان ..
أستاذ الجيل الدكتور المسيري كان من أوائل من حملوا لواء المقاومة دفاعاً عن إنسانية الانسان ضد التشي و إفراغ الانسان من إنسانيته… حتى لا يكون “شيئاً “او “وظيفياً ” كما تريد منه الرأسمالية و العلمانية الشاملة. يقول رحمه الله في نص بليغ : “…ولنتخيل الآن إنساناً يلبس “التي شيرت”، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة “البريفاب” (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (همبورغر- تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، وينام على سرير وظيفي ويشرب الكوكاكولا، ويشاهد الإعلانات التجارية التي تغويه بالاستهلاك والمزيد من استهلاك سلع لا يحتاج إليها في المقام الأول، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة عليه أن يجري بسيارته المستوردة بسرعة مائة ميل في الساعة، ويهرع بسيارته من محل عمله إلى محل طعام “التيك أواي” ومنها إلى مركز التسوق الذي يتسلع البشر، ويداوم على مشاهدة الأفلام الأميركية (الإباحية أو غير الإباحية) بشراهة غير مادية، ويسمع أخبار النجوم وفضائحهم، ويدمن تلقي الحكمة من النجمات الساطعات أو المغمورات..
ألن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار.. إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟
قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها. لقد سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية، رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه.المرجعية إذًا أمر حتمي.. ومن لم يقرر لنفسه مرجعيته النهائية، فسيقررها له الآخرون..”
يمكن أيضاً معالجة مسألة المثلية من زاوية عجز الإنسان الغربي عن تحمل المسؤولية الناتجة عن إشباع اللذة فبحثه عن نمط يغنيه من واجب الأسرة و الالتزام في علاقة حب تنشئ عنها التزامات اجتماعية تمتاز بالديمومة، في حين أن الإنسان الحديث يبحث عن النشوة الان وهنا، بدون التزام طويل الامد ..و في هذا يقول الدكتور المسيري “ألاحظ أن أبناء هذا الجيل الذين يتبنون عن غير وعي إديولوجي الحب اللازمني (ما تتحدث عنه الاغاني و تفترضه كل الافلام و تروج له وسائل الاعلام ..)، يصبحون غير قادرين على التعايش داخل مؤسسة الزواج فكل فرد متوجه بشكل حاد نحو السعادة الفردية و نحو اللذة ،مما يجعل التعايش مع الاخر في إطار واحد مسألة مستحيلة او شبه مستحيلة. “د.عبد الوهاب المسيري (رحلتي الفكرية، الجزء الثاني، ص:11).