“إننا لم نعرف شيئا حتى الآن عن الحياة… فكيف نعرف عن الموت” كونفو شيوس.
على سبيل التقديم:
تعد الكتابة الإبداعية خلقا إنسانيا لفتوحات الذات المبدعة المكتوبة بجمر الإبداع والملتاعة به، وبحثا عن مقومات النور والضوء في غياهب الظلام، واعتصارا للذات الشاعرة التي تشعر بما لا يشعر به الآخرون بحساسية إبداعية ووجدانية مفرطة في التأمل الوجودي. وخلاقة مختلفة عن الأنا العابرة في دنيا العبور، فالذات المبدعة متفجرة إبداعيا من الداخل بأسئلة وجودية تقلق الأنا، وتجعلها ترى ما لا يراه الناس، وهي تتسلل وتتلصص وتتحسس وتُسحق في طيات افتراس الوجود وانقلاب الزمن.
يمارس المبدع هذه الفتوحات الإبداعية في دروب الإبداع، بتفجير اللغة الشعرية من أعماق ذاكرة وجود اللغة بحثا عن بقع النور برؤية حالمة مشرعة نوافذ الحلم والأمل، وبعالم ينصت لذوات الموجودات. تقول ” ليلى مقدسي” الكتابة ينبوع يتدفق من الذات، وهي حركة الكيان الإنساني باتجاه كيان شعري… والعمل الإبداعي يحاول تطهير العالم، لأنه نور المعرفة.
الإبداع الإنساني بهذا المعنى؛ ينبوع يتدفق شعرية لذات مبدعة فائضة ، تشحن الكلمات وتاريخها بطاقات الخلق والسمو، تخيط جروح الذات وآلامها وانكساراتها بخيط اللغة الإبداعية الرفيع الغائب والحاضر المطيع والخائن، إذ يمسك صياد اللغة ومبدعها هذا الخيط أو قد لا يمسكه، فهو قد يأتي وقد لا يأتي.
هكذا هو الإبداع الإنساني بوح بمكنونات الذات المبدعة؛ سواء أكانذكوريا نسائيا.يكمن الفرق بينهما في البصمة الإبداعية وجودة النص وجدته وخصيصته الفنية الجمالية على مستوى المعنى والتشكل.
وما دمنا في في حضرة كتابة إبداعية نسائية في منجز زجلي موسوم بـــــ “سؤال فلت للموت” للمبدعة والأستاذة “دليلة فخري”، الصادر عن منشورات الهامش للشعر والتشكيل –جرسيف:2015”.
إذا كانتالمناسبة شرطا كما يقال، فلا بد أن نقدم قولا كاشفا عن المرأة بين الإبداع والوجود في الواقع والموقع، يقول” ابن عربي في المرأة ” هي كل مشهد للحق المشهود، لأن الرجل يشهد فيها من حيث هو فاعل منفعل…، الرجل يشهد الحق في المرأة ويعبر عنه من جمالها المقيد بجمالها الحق المطلق”.
تنفتح التجربة الإبداعية الزجلية عند المبدعة ” دليلة فخري” وتغوص في ثنايا الوجود والكينونة والميتافيزيقا طارحة مسألة هروب وانفلات سؤال لم يأخذه معه الموت، خرج من قبضته بعدما حصد ما حصد، فبقي السؤال عالقا مطروحا، أو بالأحرى هي أسئلة عديدة تختفي وراء هذا السؤال، إننا أمام مشهدية مأساوية عميقة في الدخول إلى جوانية الذات والوجود وطرح أسئلة سرمدية أنطولوجية غيبية في الماوراء، والسفر الوجودي نحو عوالم الفناء والزوال وتشظي الذات وانفلاتها من براثن الكائن والممكن عودته. فأمام فجائية الموت وصدمته ولعنته وهوله، لا يقين إلا يقينية الهباء والعدم والرحيل أمام سلطة يقين الفناء ، الموت سيل جارف يقتلع الذات، يأتي على كل ما ومن حوله، فبالأحرى يفلت له سؤال ويهرب من سلطته، هنا يحتضر الكلام وتحتضر اللغة وتأتي الرعشة أمام عنفوان وجبروت نداء الرحيل.
إننا في هذا المنجز الزجلي ” سؤال فلت للموت” أمام مونولوجات وحوارات داخلية عنيفة بداخل ذات مبدعة تعيش نوعا من المكابدة والمعاناة الوجودية والتمزق الداخلي، والانشطار والتيه والضياع بحثا عن دواء وطهارة وتطهير من صداع هذا الألم الأنطولوجي، وعبثية الأقدار الذي يسكن دواخل المبدعة باستمرار.
يمكن القول إن مؤلَّف المبدعة الزجلي ” سؤال فلت للموت” سفر أنطولوجي في دهاليز الوجود وعوالمه وتشظي الذات واحتراقها بسؤال المعنى الهارب والمنفلت للموت. تطلق المبدعة صرخة في جب أسئلة ولود عميقة العمق وسحيقة يسحق الذات الشاعرة ويقتلعها من ذاتها، فالسؤال مشروع للموت ومشرع ومفتوح أمامه، فهو الخصم والحكم، وفي حقيقة الأمر ليس هناك سؤال واحد، بل نسيج نسق فكري جواني، داخلي في لا وعي المبدعة، وهي تستنطق ذاكرة الزمن والوجود، كشكل من أشكال الرفض للاستكانة إلى جبرية الخضوع إلى فعل الموت كسلطة قاهرة تضيق الخناق على الذات، ولا تترك لها فرصة الخيار، ولوصف جبروت الموت وسلطته على الإنسان، تقول المبدعة في ص 92 من الديوان:
لموت دليلة
مافيهاش النفس
منا هاربين منها
وهي تابعانا
إن المبدعة على يقين أنها في رحلة صوفية في محراب الصمت والرحيل في دروب اللايقين واحتفاء بالهباء والفراغ في حضرة النهايات، فالكتابة عن الموت كتابة عن الحياة، ففي العمق من يطرح قضايا وأسئلة الموت، يفهم بعمق كنه وسر الوجود، ولعل هذا ما يخصب ويضفي طابع الخصوصية على هذه التجربة الإبداعية العميقة الحفر والنبش الذاتي الوجودي في حوارات الذات الكونية والأنطولوجية تقول المبدعة في ص 19:
الكتابة سؤال
كيبرد جمار و
ف ريق اللغة
وفي حالات السقم ولحظات المحن الوجودية، تكون الكتابة بلسما حين يفتح المبدع نافذته الإبداعية في عوالم الكتابة الشعرية مشرعا أشرعة الحلم والأمل بالشفاء بعلاج دواء الكتابة الإبداعية، وإن كانت أحيانا الموت راحة ؛ تقول الزجالة في ص 29 من الديوان:
لموت
استراحة
للجسد
من السؤال
ولمواجهة سلطة الموت والفناء، تحتمي الذات المبدعة بدفئ الكتابة هنا، وامتداداتها الوجودية كوثيقة تاريخية شاهدة على المرور الخلاق من دنيا الوجود من بين مخالب الموت كسلاح معرفي، كون الكتابة الإبداعية بطاقة حياة بعد الموت ضدا في النسيان وإحياء للذاكرة والوجود الشخصي للذات وبقائها في سجل الأبدية والخلود ” اللي كتب ماماتش”.
وعلى امتداد قصائد الديوان الزجلية تطرح المبدعة أسئلة عميقة في الحياة مرتبطة بالأساس بأسئلة الكينونة والميتافزيقا. غير أن جواب هذه الأسئلة هو اللاجواب، وهذا السؤال الذاتي يحترق بنار الوعي الشقي والوجودي عند المبدعة تقول في ص 11 من ديوانها الزجلي:
السؤال جمرة
أنار رمادها
فمن السؤال تتولد وتتفرع الأسئلة المقلقة، التي تحاصر المرء، ولا قدم له الجواب الشافي بقدر ما تدخله في دائرة الصراع، وحلقة مفرغة مع شبح السؤال في حصار لا بداية ولا نهاية له، تقول المبدعة في ص 13 من الديوان:
السؤال قمقم
الداخلو مفقود
والخارج منو
مكاينش
يلا دخلت
حصلت
أمام مشهدية المأساة، تركب المبدعة على صهوة الموت والسؤال في نبرة حوارية عبثية ذات منحى تفاوضي في سخرية واضحة تقول في ص 52.
أنا ولموت
لعبنا لعبة الحياة
قلت لها:
خلينني نعيش شوية
ونخليك تموتي بزاف!!
تتسع رقعة مساحة الدهشة والقلق على مرمى حجر من ثنائية الوجود والعدم. فالمبدعة تحرك آلة الأسئلة الوجودية باستمرار إذ إن علامة الاستفهام لا تفارق وجودها وتفكيرها المتأزم في حضرة الموت، وهي في كل ذلك لا تقدم إجابات محددة شافية لأسئلتها بقدر ما تطرح السؤال إلا لتعيد طرح سؤال آخر أعمق منه، فعندما يأخذ الموت روح الإنسان إلى أين يمضي به؟ تقولالمبدعة هنا وهي واقفة شاخصة في محطة الموت في ص 88 من الديوان:
فلان داتو
لموت
فين داتو؟
على سبيل الختم؛
هو الموت لا يبقي أحدا، قابع فينا، مطل من فوهة بركان مشتعل، هادئ يزور خلسة، يطرق أبواب الذات، ويتركها فيآلامها وحسرتها، فينقض.يكثر التعبير عن موضوعة الموت في ألوان الكتابة الإبداعية؛ يصوغ الأديب الأريب، والشاعر الملهم ألفاظا ليعبر عن سطوته، يروم القبض على حباله التي تطول، في الكتابة الزجلية يتقاطع الموروث الثقافي بمضمون القصيدة الزجلية؛ عبرها نلمح رؤية للمجتمع ورؤيا لدهاليز سيرتنا الأولية.
الشاعرة دليلة تعود بنا إلى تيمة “الموت” عبر ديوانها المائز، الإنسان يفصح عن دواخله لكن القول لم يقال، تظل الكلمات باحثة عن معبر، بحثا عن مؤول يشتهي كشف حجاب الموت الساخر من الأقدار.