(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة: 183، هذه الآية تبين أن الصيام خير مطلق ومصلحة للفرد والجماعة بل هو رسالة إنسانية خالدة ثابتة بين الأمم على مدار التاريخ فالصيام منظومة تهدف إلى إيجاد حالة إنسانية مجتمعية راقية من الصلاح والقطيعة مع الفساد عن طريق تحرير الإرادة المادية والمعنوية التي تحاصر إختيارات البشر ومواقفهم وسلوكهم وتقوية هذه الإرادة على فعل الخير والتحلي بالفضائل حتى أنه يطلب من الصائم أن لا يرد السيئة بمثلها، وهذا هو المقصد الأكبر للصيام المعبر عنه بالتقوى وهي أرفع مستوى بشري يكون فيه البشر أقوى على فعل الصلاح وأقوى على القطع مع الفساد في جميع مجالات الحياة والذي يتجدد التمرين عليها بالصيام لتستمر خلال بقية السنة والذي يراد به أن يكون صوما سرمديا دائما بعد شهر رمضان ولهذا فهو مضاد حيوي ضد الفساد، ويقول في هذا الصدد د “مصطفى صادق الرافعي“: (يتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتّقي بها المجتمع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة لهذا القانون العام الذي اسمه الصوم) وهكذا فالإصلاح الذي يكون في رمضان وبسبب الصيام عميق شامل متنوع فهو إصلاح روحي، تربوي، علمي، ثقافي، أخلاقي، إجتماعي، إقتصادي، سياسي.
ليس بالضرورة أن أكون رجل دين حتى يُسمح لي أن أدلو بدلوي في قضايا تخص ديننا فيكفي أن يكون لي رصيد يجمع بين القراءة والفهم يعززان ما ترسب عندي من إيمان فطري بالرجوع أحيانا إلى قواعد وأصول هذا الدين وأحكامه بدلا من الإنحصار في قراءات ضيقة الفهم في حدود ما يوصي به بعض الفقهاء أو في حدود ما هو متداول عند عامة المسلمين المحجور عليهم أو المنساقين من وراء ما يوحى لهم من معتقد بأن ذلك هو الدين، ففي هذا الشهر الذي هو محطة يجب أن تنير لنا حياتنا كما هو إمتحان يجب علينا جميعا أن نستخلص منه العبر لا أن نجعل منه حدثا مناسباتي نعطش فيه ونجوع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وندعي أننا قضينا فريضة؛ فالصيام له مفهومه كما له قيمه وأحكامه وهو يتجاوز ما نعتقد أنه يقف عند الإمساك عن الشهوتين وأن ذلك مرتبط فقط بشهر رمضان الذي هو شهر أساسي ذكره الله في محكمه بينما هو في الوقت نفسه يعد رسالة لتهذيب النفس وتأهيلها لإستحقاقات أخرى يجب أن يلتزم بها المسلم على مدار العام، ولتسليط الضوء على ذلك يجب تحديد مفهوم الصيام.
للصيام مفهومين شرعي ولغوي وهذا المفهوم الأخير هو مقصدنا في هذا المقال فالصيام لغة هو الإمتناع عن فعل الشيء أو مقاطعته أي أن الإمساك له معنى واسع أوسع من الأكل والشرب وممارسة الجنس ومن قوله الله في حكاية مريم كما جاءت في القرآن: (فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا.) مريم: 26، بمعنى أن الإمساك عن الكلام يعد كذلك صوما وليس أي كلام يراد به في هذا الباب فإما أن يقول الإنسان خيرا أو فليصمت بينما النميمة أو الغيبة لا تبطلان أجر الصيام فحسب بل يترتب عنهما إثم، إذن أين نحن من هذا الذي نقول عنه صياما؟ فالسلوكيات في مجملها كما في جزئياتها لا توحي بأننا مسلمين ملتزمين بعهدة الصيام التي تربطنا مع الله فبكل تأكيد نحن نخل بهذه العهدة في مضامينها وبإلتزاماتها الحقيقية وكأن شهر رمضان هو شهر لا يحث على الإنضباط بعدم إرتكاب الفواحش ولا تتجلى قدسيته إلا في الجوع والعطش هي ثقافة من النفاق نخادع بها أنفسنا ولا نخادع بها الله وكبر مكرا عند الله أن نحرف الكلام عن موضعه، فالصيام في مفهومه الواسع أي الإمساك عن الرذيلة وهذا الإمساك لا يتوقف عند هذا الشهر بل له من الإمتدادات الفضلى بما يجري على طول السنة.
لهذا كله يأتي دور الصيام كميدان كبير وواسع ومدرسة عظيمة لغرس قيم المقاومة والتحرر في الفرد والمجتمع حتى يتخلص من سلطان البطن وأسر الشهوات ويتحرر من عبودية الهوى كما يتحرر من سيادة غرائز الدنيا كالشح والبخل وحب النفس والكسل وحب الراحة حتى تتصف النفس بصبر الحر وجلد الكريم تلك الأمور التي أذلت البشرية ولا تزال كلما خضعت لسلطان الطغاة سواء الذين يتحكمون في طعامها وشرابها أم أولئك الذين يطلقون العنان لشهوتي البطن والفرج ويُشجعون على ذلك ويُروجون له ويُفلسفونه ولا يعنيهم إلا حرية الجنس لأن ذلك من لوازم الطغيان وضمان إستمراره وتعطيل الإحساس به ومقارعته، وهناك دور سياسي آخر للصيام هو إسهامه في توفير الدعم الروحي لأي عمل يحتاج إلى الطاقة الروحية ولهذا نفهم لماذا تحقق عدد من الإنتصارات الكبرى في التاريخ الإسلامي في شهر الصيام بداية من غزوة بدر (17رمضان 2 هـ) مرورا بفتح مكة(20 رمضان 8 هـ) والقسطنطينية (12رمضان 850هـ) ووصولا إلى حرب (10 رمضان 1973م).
عبد الاله شفيشو/فاس