المجنون ما هو إلا شخصٌ يفتقد لملكة السيطرة على أفكاره وسلوكياته تجاه نفسه أولاً ثم اتجاه محيطه بالكامل، وتختلف النظرة له من مجتمع لآخر هناك من يحترم خصوصياته و يعطيه الإهتمام الكافي وهناك مجتمعات أخرى تخترق تلك الخصوصيات وتراه بعين الدونية والاحتقار الغير مبررين.
اخترت التجول في أحياء وأزقة بلادنا العزيزة وإسقاط هذه النظرية على مجتمعنا العربي والمغربي على وجه الخصوص، حيث غالباً ما كنت اصادف أشخاصاً كُثر يعانون من أمراض نفسية تختلف درجة تطورها من شخص لآخر كما تختلف أعراضها، تكاد لا تميزهم عن عامة الناس سوى بأسمالهم البالية و هيأتهم المتسخة عادة، يعيشون حياة التشرد دون مأوى، يأويهم الشارع و يفترشون الأرض و يحتضنهم الضياع، يأكلون من النفايات بقايا طعام إن وُجد، أغلبهم يعيش على التسول و عطف بعض الناس أو بالأحرى أقلية من الناس التي ما زالت تحيا على قيم الإيثار ومساعدة الغير.
لاحظت ما مرة أن أكثر ما يقلق راحة بال هذه الفئة ليس غياب المأوى ولا شُحُّ ما يأكلون، ولا حتى يخيفهم الموت جوعا، بل هم أحوج حالا إلى الدعم الحسي والمرافقة النفسية، هم أحوج إلى أقرب الناس لهم من ذويهم الذين غابوا عنهم في أحلك الظروف، عديد المرضى كان في حاجة فقط إلى إبتسامة أو حضن أو كلمة صغيرة كانت قادرة على تغيير العديد من الأشياء، وكانت كفيلة بإخراج شخص من ظلمات عذاب المرض النفسي الذي يفوق معاناة مرضى المرض العضوي بدرجات و درجات.
بين هذا و ذاك كانت لي أنا وجهة نظري الخاصة والمختلفة تماما عما يتم تداوله حيث دائما ما اعتبرت “المجنون ” ما هو إلا شخص عادي له أفكار يؤمن بها لوحده دوناً عن سواه مِن مَن يعتبرون أنفسهم “عقلاء” زمانهم، هو شخص يرى أشخاصاً وأحداثاً ووقائعاً تعجز مخيلة العقلاء الضيقة على استيعابها وإدراكها، وبالتالي نستنتج أن الجنون هو ملكة لم ينعم بها الله على كافة عباده، أو بالأحرى هي فن وإبداع لا يتقنه الجميع.
كيف ذلك؟ …. مثلا الحديث مع النفس تبدو ظاهريا ضربا من الجنون لكن هل تساءلت يوما عن القدرة الهائلة التي يمتلكها من يقوم بهذا الفعل الجنوني (إن صح التعبير) من موهبة ومن ميكانيزمات في فن التواصل، في وقت واحد يلعب “المجنون ” دورين وكأنه يخاطب مرآة يسأل ويجيب نفسه، يسأل وينفعل على نفسه، يشرح لنفسه فكرة ما ويكذبها ولا يقتنع بها في نفس الوقت، بل أكثر من ذلك يصف نفسه بالمخبول لعدم إقتناعه بفكرة نفسه، نعم العملية هي ضرب من الجنون المُفتعل لكن كُن على يقين أنك مهما بلغت من الصَّراحة والصدق لن تكون أصدق من صِدقك مع نفسك وإلى نفسك ، فهو حديث الرُّوح منها وإليها يعود، هو حديث متجرِّدٌ من كل المساحيق التجميلية او لغة خشب، لن تحتاج إلى الكثير من الوقت لأجل صياغة أفكارك أو حياكة قصصٍ أيديولوجية لإقناع شخصٍ بفكرة ما أو لأجل ضحض فكرته، يكفيك فقط اخذ نفسا عميقا والتحرر من كل المأثرات الخارجية وإطلاق العنان للسانك ولأفكارك.
كباقي الناس تنتهي حريتك عند حرية الآخرين، وكلٌ منا يعشق تلك الخصوصية و عشق الانفراد بها لوحده دون تدخل طرف آخر، لذا يجب إعطاء هذه الشريحة من المجتمع شيئا من الاهتمام والرعاية أو القليل من الحرية إذا لم تستطع مساعدتهم، دعهم يعيشون عالمهم الخاص بدون مضايقات وبدون احتقار مبالغ فيه، بعض من العطف من بعيد وأتركهم إلى سبيلهم فربهم قادر بهم.