و نحن على بعد أيام قليلة من الدخول المدرسي تزداد مساحة القلق والتوتر لدى كل المتدخلين في هذا القطاع: مسؤولين وإداريين وتربويين وأساتذة وأمهات وآباء وأولاياء و تلاميذ وأسر، فالقلق والتوتر المصحوبين بالانتظار والترقب هي السمات التي تجمع الجميع، ولن نبالغ إذا قلنا أن الدخول المدرسي أصبح قضية الجميع أو على الأصح قضية وطنية، في ظل هذه الجائحة وهذا الوباء الذي لا يتوقف عن الانتشار ليجد الآلاف من المصابين والمئات من الشهداء.
و هكذا وفي الوقت الذي كانت فيه أنظار الجميع متجهة لباب الرواح حيث مقر وزارة التربية الوطنية انتظارا للحل السحري الذي سيقدم أجوبة على كل أسئلة المجتمع ويقدم مقترحات وحلولا عملية ترضي الجميع وتزيح حالة القلق والتوتر السائدة، صدر بلاغ وزارة التربية الوطنية والذي قوبل بانتقادات واسعة وباستهجان كبير وهناك من اعتبره قرار استمرار العبث، أو قرار إرضاء لوبي التعليم الخاص، أو قرار إرضاء الخواطر… وغيرها من الأوصاف القدحية، والآن وبعد مرور هذه الموجة الأولية من النقد والانتقاد كيف يمكننا أن ننظر وبكل هدوء وموضوعية لهذا القرار؟؟
بداية نتفق جميعا أننا نعيش و يعيش معنا العالم برمته وضعا استثنائيا و غير مسبوق على الأقل في عصرنا الحديث ، و الأوضاع الاستثنائية تتطلب قرارات استثنائية ، قرارات تتميز بالليونة و القابلية للتغيير و التعديل حسب تغيرات هذه الظروف ، كما أن هناك شبه إجماع على مسألتين أساسيتين و هما :
- صعوبة بل و خطورة الاعلان و الذهاب لدخول مدرسي عادي ، أي دخول مدرسي يتبنى رأي التعليم الحضوري ، لما سيشكله هذا القرار و في هذه الظرفية من خطر على صحة ليس التلاميذ و الأساتذة و أسرهما ، بل على المجتمع برمته ، خاصة مع ما نعرفه من ارتفاع متواتر في أعداد المصابين بالڤيروس و انهيار المنظومة الصحية في العديد من المدن ( طنجة و مراكش مثلا ) و بالتالي فأي دخول مدرسي عادي و عودة عادية للتعليم فهي مخاطرة لا أحد يعرف عواقبها.
- فشل تجربة ” التعليم عن بعد ” ، فشل أقر به جميع المتدخلين ، فشل عائد لمجموعة متنوعة من الأسباب و العوامل منها ما هو عائد للأستاذ و منها ما هو راجع للتلميذ و منها ما هو راجع للمسؤولين و منها ما هو راجع لعوامل موضوعية أخرى كالفقر و سوء التغطية أو انعدامها و عدم انخراط شركات الاتصال الثلاثة في هذا المشروع لإنجاحه ..
نحن الآن أمام هذه الوضعية غير المسبوقة : خطورة التعليم الحضوري و فشل التعليم عن بعد ، فما العمل إذن ؟؟ هل نعلن سنة بيضاء و هل المغرب بإمكانه تحمل تبعات هذا القرار؟؟ أكيد لا أحد يمكنه الاقدام على مثل هذا القرار . هل نؤجل الدخول المدرسي في انتظار هدية من السماء أو اختراع لقاح لهذا الوباء ؟ و إلى متى يمكننا الاختباء وراء التأجيل و الاختباء تحت عباءة مقولة ” كم حاجة قضيناها بتركها ” ؟؟ إلى متى سنظل ننتظر الذي قد يأتي و قد لا يأتي ؟؟ أكيد أن التأجيل أو الانتظار سيكون بمثابة الانتظار القاتل خاصة و أن منظمة الصحة العالمية أعلنت سابقا بأنها تتوقع استمرار الوباء لمدة سنتين ، فهل سنتشبث بهذا الانتظار القاتل؟؟ إذن و أمام هذه الأسئلة ما العمل ؟؟ كيف يمكننا أن نتصرف في مستقبل جيل ؟؟
أقدمت وزارة التربية الوطنية و التكوين المهني و التعليم العالي و البحث العلمي على إصدار بلاغ إخباري يوم السبت 22 يوليوز 2020 ، من أهم ما جاء فيه ، قرار الوزارة ” باعتماد “التعليم عن بعد” كصيغة تربوية في بداية الموسم الدراسي 2020/2021 بالنسبة لجميع الأسلاك و المستويات … مع توفير “تعليم حضوري” بالنسبة للمتعلمين الذين سيعبر أولياء أمورهم عن اختيار هذه الصيغة …” كانت هذه أهم ركائز مقترح الوزارة ، المزج بين “التعليم عن بعد” و التعليم الحضوري . فماذا عن مقترح الشركاء الاجتماعيين : لدينا مقترحي نقابتين ، مقترح النقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل و الذي جاء على لسان كاتبها العام الرفيق ” عبد الغني الراقي ” و الذي قال في إحدى الاستجوابات الصحفية بأنهم اقترحوا في النقابة ” “التعليم بالتناوب” لتفادي انتشار الجائحة في صفوف التلاميذ والأسر، (وهذا الأمر عبر عنه ملك البلاد في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب بعدما اتضحت خطورة انتشار الوباء وتصاعد أرقام الإصابات والوفيات). وأكدنا على أن سيناريو التعليم الحضوري بنسبة 100 في المائة مستبعد جدا، نظرا لتصاعد الحالة الوبائية في البلاد. نفس الشيء ينطبق على صيغة التعليم عن بعد بنسبة 100 في المائة ” و هكذا تستبعد النقابة الوطنية للتعليم كلا من التعليم الحضوري بنسبة 100% كما تستبعد التعليم عن بعد بنفس النسبة المئاوية . و هي في ذلك تقترب نوعا مما جاء في بلاغ وزارة التربية الوطنية ، يختلفان فقط في كيفية الإجراء ، و كيفية تفعيل حضور التلاميذ ، ففي الوقت الذي تركت الوزارة باب الاختيار مفتوحا في وجه الأسر ، محملة إياها المسؤولية و مشركة إياها في القرار ، أبقت النقابة الوطنية للتعليم الباب مفتوحا في صيغة الحضور بالنسبة لاقتراحها بخصوص مسألة التعليم بالتناوب.
أما النقابة الأخرى ، الجامعة الوطنية لموظفي التعليم و التابعة للاتحاد الوطني للشغل ، فقد اقترحت في رسالة موجهة لوزير التربية الوطنية يوم الجمعة 21 غشت 2020 ، اقترحت ثلاثة سيناريوهات : سيناريو دخول مدرسي عادي بشكل عادي كما جاء في المقرر الوزاري و ذلك إذا ما انخفض عدد المصابين و الموتى و هذا السيناريو مستبعد مع استمرار ارتفاع عدد المصابين و الموتى ، السيناريو الثاني : مرتبط بتصاعد وثيرة الإصابات و الوفيات و ارتفاع نسبة الفتك و اتساع رقعة انتشار الوباء ، و في حالة لجوء الدولة إلى الحجر الصحي التام . ضرورة اعتماد التعليم عن بعد مع القيام باتخاذ اجراءات تاكفؤ الفرص و تصحيح الاشكالات السابقة . أما السيناريو الثالث فهو اعتماد التناوب بين التعليم الحضوري و التعليم عن بعد مع مراعاة خصوصيات الجهات و الأقاليم و الجماعات . و بالوقوف عند الوضعية الوبائية الحالية بالمغرب يمكن لهذه النقابة أن تستبعد السيناريوهين الأولين و يبقى السيناريو الثالث هو الأصلح للوضعية التي نحن عليها اليوم . و عليه فالجامعة الوطنية لموظفي التعليم تلتقي في مقترحها مع مقترح النقابة الوطنية للتعليم ، الذي يشبه كما قلنا لما جاء في بلاغ الوزارة .
و الآن كيف يمكن التوفيق بين هذه المقترحات ؟؟ و كيف يمكن انزالها لأرض الواقع ؟؟ و كيف يمكن ضمان النجاح و الفاعلية لها ؟؟
و نحن أمام بلاغ الوزارة و مقترحات الشركاء الاجتماعيين نجد أننا أمام الكثير من نقط التشابه ، فلم هذا الانتقاد الواسع لبلاغ الوزارة ؟ لعل أهم ما يفسر هذه الحملة و هذا الانتقاد الواسع راجع للوزارة نفسها ، راجع لسياستها ، التي تحمل عنوانا كبيرا هو ” سد باب الحوار ” و إغلاق كل منافذ المشاورات ، و الاستمرار في سياسة التدبير الانفرادي الأحادي ، و الابتعاد عن الشركاء ، في وقت أصبح فيه الانصات ضرورة ، ضرورة تعليمية و ضرورة اجتماعية ، الانصات لجميع الأصوات و الانفتاح على كل المقترحات باعتبار أن لا أحد يحمل الحقيقة المطلقة ، و لا أحد بيده عصا موسى لإنزال الحلول الناجعة و الناجحة ، و الانصات يتطلب دمقرطة اتخاذ القرارات و توسيع مصادرها ، و المرونة في اتخاذها ، و القبول بتغييرها بتغير الوضعية الوبائية . فالوزارة و مسؤوليها مطالبة اليوم و أكبر من أي وقت كان بفتح باب الحوار و إشراك الشركاء الاجتماعيين وكل المتدخلين في القطاع في كل القرارات المصيرية المتعلقة بالتعليم.
و اليوم و نحن نقدر وضعية الإحراج التي يوجد فيها جميع المسؤولين عن القطاع نقول بأنه يجب الاستفادة من هذه الجائحة و اعتبارها فرصة تاريخية لاعطاء معنى حقيقي للجهوية و الابتعاد عن المركزية المشددة ، عبر إعطاء الصلاحية و القوة لقرارات الأكاديميات و معها المديريات الإقليمية ، و القوة لقرارات المؤسسات التعليمية و مجالسها التدبيرية و هي التي تحضى بتمثيلية كل من السلطات المحلية و ممثلي الأمهات و الآباء و الأولياء ، اليوم و أمام التباين الحاصل في انتشار الوباء عبر الجهات و الأقاليم و المدن نحن في حاجة لجهوية حقيقية ، فلا يعقل البتة فرض نفس القرارات في كل أقاليم الوطن ، فالمؤكد أن القرارات التعليمية التي يجب اتخاذها بمدينة مثل مراكش التي يخنقها المرض لا ينبغي أن تكون هي نفسها المطبقة في مدن أخرى حماها الله من شر انتشار هذا الوباء ، و أكيد أن الاختلاف سيكون بين مديريات نفس الجهة ، بل قد يكون بين المؤسسات التعليمية المنتمية لنفس المديرية أو لنفس المدينة ، حيث تعطى الصلاحية ، صلاحية اتخاذ القرار بالنسبة لنوعية التعليم لمجلس التدبير ، تبعا لحالة الوباء في الحي أو نسبة انتشاره في صفوف المتعلمين …
حقيقة هناك شبه اتفاق حول مقترح المزج بين “التعليم الحضوري” و “التعليم عن بعد” و هو ما سمته النقابتان بالتعليم بالتناوب ، فهذا المقترح و إن كانت فيه الكثير من السلبيات ، و إن كانت تدور حوله الكثير من الأسئلة مرتبطة بكيفية و طريقة تنزيله لأرض الواقع ، إلا أنه يتضمن الكثير من الإيجابيات ، أولها أنه يتجاوز سببا رئيسيا من أسباب فشل التعليم عن بعد ، و الذي يتجلى في غياب التفاعل و التجاوب بين الملقي ( الأستاذ ) و المتلقي ( المتعلم ) و انعدام التكوين لدى الأساتذة ، فأمام هذا المقترح يمكن نقل الدروس مباشرة للذين سيتلقون التعليم عن بعد سواء باختيار أوليائهم – بلاغ الوزارة – أو لسبب تنظيمي آخر – مقترح النقابتين – فالأستاذ سيلقي درسه للتلاميذ الحاضرين الذين يتفاعلون و يتجاوبون معه فيما يتابع الآخرون هذا الدرس الذي سيتميز بحيوية أكبر . ثم تأتي مسؤولية الدولة و الجماعات و شركات الاتصال لتجاوز أسباب الفشل الأخرى ، بتوفير وسائل التواصل و تحسين جودتها و جوة التغطية ، و هنا يجب أن تظهر شركات الاتصال الثلاث وطنيتها و حسها الوطني ، و هو ما فشلت فيه في الموسم الدراسي السابق حيث كان همها الكبير إن لم نقل الوحيد و الأوحد هو الربح و لا شيء يعلو على الربح.
بلاغ الوزارة الذي ينص على اعتماد “التعليم عن بعد” مع توفير “تعليم حضوري” قد يطرح حسب النقابات بعض الاشكالات و التساؤلات مثل : ماذا لو اختار كافة الآباء التعليم الحضوري ؟؟ هل سيتم إذن العمل بأقسام ممتلئة عن آخرها ؟؟ و هذا سيشكل خطرا كبيرا على صحة الجميع . ثم ماذا لو اختار كافة الآباء “التعليم عن بعد” ؟ هل سنعود لنموذج تعليمي أجمع الكل عن فشله . ثم ما موقع الأستاذ من هذه القضية ؟؟ كيف يستطيع التوفيق بين النموذجين التعليميين “عن بعد ” و ” حضوري ” ؟؟ و ماذا عن الغلاف الزمني الخاص باستعملات الزمن الخاصة بالسادة الأساتذة ؟ هل سيطلب منهم الاشتغال لساعات تتجاوز الساعات المقررة لهم ؟؟
هنا و إن كنا نستبعد الاجماع ، اجماع الآباء و الأمهات على اختيار نموذج بعينه ، و لكن يبقى أنه من الممكن الاستعداد لهما مع استبعاد هذا الاجماع ، ففي حالة الاجماع على الحضور لا مناص هنا من ترك الصلاحية للمؤسسات التعليمية لتقسيم التلاميذ إلى مجموعات ، مجموعات تدرس بالتناوب و هنا سنجد أنفسنا أمام مقترح النقابات ، أما إن كان الاجماع على عدم الحضور – و هو أمر مستبعد – فلا مفر من التعليم عن بعد مع ضرورة العمل على تجاوز أهم أسباب فشله في الموسم الدراسي الذي نودعه.
يبقى نقط أخرى لابد من الوقوف عليها مرتبطة باستعمالات الزمن ، بالمقررات ، بالحضور و الغياب ، باحراءات العملية التعليمية التعلمية داخل الحجرات و في الساحة و المراحيض و كل مرافق المؤسسة التعليمية …. و هنا سيطرح من جديد سؤال الانصات و الإشراك و الدمقرطة ، الإنصات لكل الشركاء الاجتماعيين ( و بالخصوص النقابات ) و المتدخلين في القطاع ( و بالخصوص جمعيات آباء و أولياء التلاميذ ) و إشراكهم و إشراك أطر الإدارة التربوية و التفتيش و التخطيط و التوجيه و غيرهم في وضع خريطة الطريق المناسبة و الاستثنائية للوضعية الاستثنائية التي نعيشها ، و الاقتناع بأن لا أحد يملك الخاتم السحري للخروج من هذه الأزمة ، و أن لا أحد يملك الجواب النهائي على وضعية غير نهائية ، و لا أحد يمكنه إنقاذ المركب الذي يغرق بمجهوداته الفردية ، فالمركب هو مركب الجميع ، فليساهم الجميع في انقاذه.