حين نتفحص التاريخ السياسي العربي سواء القديم أو المعاصر، نلمس عن قرب مدى مركزية الخرافة (أو التأثير العاطفي في الوجدان الشعبي) في صناعة القرار السياسي… ولعل أقرب شاهد على الفكرة مدى انتشار الحركات الاسلامية في تاريخنا المعاصرة وقوتها استنادا على كسب قلوب الناس بخطاب المظلومية تارة وبالخرافات ومناقب قادتها تارة أخرى، وهذا الداء ليس بأمر جديد البتة.
فالتاريخ السياسي العربي يطوي بين دفتيه فكرة رئيسة، مفادها أن الذي يسود سياسيا ويقدر على تأسيس كيان قوي هو الأقدر على توجيه عاطفة الناس… فالناس له تبعا ما لعب على أوتار هواهم؛ وهم خصومه ما حاول كسبهم بخطاب العقل والدليل… فجل الدول التي مرت بتاريخنا العربي أسست استنادا إلى (رؤية في منام، أو خرافة أو نبوءة أو بدعوى إقامة الدين)، وهذا منطقي، فاول ما يبحث عنه التابع في المتبع هو مناقب المتبع أو كراماته، إذ المزاج النفسي الجمعي أو التركيبة النفسية للمجتمعات العربية عاطفية يستهويها ما هو من نوعية هذه الخطابات! وهذا أمر يمكن اسقاطه على واقعنا الحالي.
فالأحزاب السياسية مثلا لا توجه خطابها للمثقفين والباحثين، بل وأغلب الباحثين والمثقفين إن لم تكن لهم مواقع داخل حزب او اخر تجدها متبرمة من المشاركة السياسة او على الاقل المخالطة السياسية.
ومنه كان هجوم الأحزاب على المثقف بدعوى أنه أناني ويعيش في برجه العاجي ويتكبر على الرعية ويعيش اوهام العقل بعيدا عن مخالطة الناس والاهتمام بأمورهم.
فانظر إلى الخطاب السياسي كيف يحاول كسب الجمهور او توجيهه او ركوب أمواج حدث سياسي لكسب عواطف المتابعين طلبا لخلق التابعين…
والحركة الاسلامية بدورها ومنذ بدايتها سواء أكان الامر بحسن النية او بسوئها قد اشتغلت على كسب هوى الناس لا إقناعهم، ولذلك انتصرت على اليسار الذي- وان حاول بدوره كسب هوى الناس بخطاب المظلومية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحيين “الكادحين- فقد كانت أقدر منه على دخول قلوب الناس بخطابها البسيط وبسيرة قادتها الذين كانوا صحابة عصرهم من شدة الورع وكثرة الزهد في الدنيا والاقبال على الاخرة، في مقابل حرص الرفيق على الدنيا ومحاسنها ومعاقرة للخمرة واستحلاله للمحرمات!
والحقيقة أن هذا لا يستمر طويلا فلك أن ترى شدة تعلق صحابة عصرنا اليوم بالتعويضات وغنائم الكراسي، وكرههم لمغرم المعارضة وخوفهم من فقدان ما بأيديهم.
هذه الأزمة تجسد لنا بالفعل أزمة العقل عندنا وهي سبب من أسباب الانكسارات التاريخية التي عشناها. فمعادلة التغيير منذ البدايات ارتبطت بهذه المقدمة “كسب القلوب واستمالتها” والنتائج في كل مرة هو أن تدول هذه الفئة وتسود أخرى إلى أن تديل فتسود أخرى… والحال يقضي بأن تأتي أخرى الان فتسود بنفس الطريقة ولا حظ سيكون لنا معها إن هي مضت بنفس سرديات السابقين ! أي أن الطامح للتغيير يبدأ باستمالة القلوب لكسب الشعبية ثم ما يلبث أن يصير يركب تقد جديدة لتلك العقدة التي كان يدعو لفسخها بداية.
فالأمر لازال يدول إلى نفس النتيجة في كل مرة، وكأن الذي انخرط في السياسة من أجل تغييرها لا يلبث حتى يصير محتكما لقواعدها يعتقد بحرمتها فيصير إلى ما صار إليه سابقه…
كأنها لعنة السياسة تصيب كل من اقترب منها أكان ذا مبدإ أو ذا غرض يقضيه.