يقود الوهم مواطنين من مختلف الأعمار، يوميا إلى الوقوف في طوابير طويلة أمام منبع مائي، يعتقد الجميع أنه ملاذه الأخير للتخلص من عدة أمراض استعصي على الطب الحديث علاجها، فأغدقت عليهم الطبيعة بنعمة الشفاء.
الكثير من هؤلاء المواطنين يصرون على التشبث بفعالية مياه (العين) في الاستشفاء من آلام المعدة والأمعاء، والكلي، كما لايخفي البعض امتعاضه من طرق العلاج الطبية التي يراها هدرا للأموال، وضربا من العبث.
ويسود الاعتقاد لدى فئة عريضة من الرجال والنساء ممن حجوا من أحياء طنجة ومداشرها، أن (ماء الجبل) كما يسمونه يستطيع إظهار ملامح الشفاء للمريض منذ الأسبوع الأول الذي يداوم فيه على شربه، فلا يتواني عدد من الأفراد في الاستدلال بحالات أقربائهم وذويهم، ممن تخلصوا بفعل بركة زلال المنبع من أمراض ألمت بهم، ووقف الطب الحديث عاجزا أمامها، بعدما التهمت منهم مصاريف العلاج بالمصحات الخاصة والعيادات الطبية أموالا طائلة.
وطالما اقتصرت فئة المترددين على هذا المنبع المائي من الرجال والنساء على الذين يشكلون عائلات معوزة، تعاني قصر ذات اليد، إلا أن الأمر لم يعد يقتصر على هذه الشريحة، وإنما مس فئة أخرى من أصحاب السيارات الفارهة، تساهم هي الأخرى في حجم الازدحام، كدليل على تنامي أعداد الوافدين على العين المائية، لينهلوا منها بركة التداوي أو على الأقل لدحض الشكوك.
عبد السلام مسن في عقده السادس، لم يكن سوى واحدا من بين العشرات ممن يحجون يوميا إلى المزار الوهم، دفعته ادعاءات واشاعات انتشرت كالنار في الهشيم حول قدرة المنبع على تخليصه من أوجاع البطن، حيث نصحه مقربون بالمداومة على شرب الماء، بعدما أنهكته الأدوية الطبية، وهوبالكاد يقف وسط جموع غفيرة متكئا على عصا ينتظر دوره لجلب نصيبه من المياه، وقد ظهرت عليه بوادر الارهاق والملل.
عبثا يحاول المرء أن يصرف تفكير هؤلاء عن اعتقادهم الراسخ، فتجدهم موحدين على أمل العلاج المجاني، كما هو حال “زهرة البقالي” وهي امرأة في مقتبل العمر، عندما تقول (هذا ماء الجبل مزيان للمعدة بالتجريب خاي كانت كتحرقو المعدة، وسبابو هاد الماء هو لي دواه)، واصلت الزهرة حديثها متحمسة لاصغاء الأخرين، تبرز من خلاله فوائد الماء، التي تدفعها إلى المداومة على شربه باستمرار.
ويرى أستاذ باحث أن الظاهرة مرتبطة بسلوك نمطي مألوف لدى المقبلين على استهلاك ماء العين، وهذا السلوك يؤثر بتداعيته على الحالة النفسية لهؤلاء، فيزيد من احساسسهم بالاستقرار النفسي، فيغريهم هذا الاحساس بالمداومة على استهلاكه، وغض الطرف عن ملاحظات الأخرين، التي تثير المخاوف، لأن الشعور بفعالية الشيء ينبثق من كيفية التعامل معه.
تفتقت عبقرية البعض منهم عن فكرة مربحة، حينما عمدوا إلى نقل مياه المنبع في قارورات خاصة بشركات المياه المعدنية على متن عربات مجرورة بدراجات نارية، عارضين إياها للبيع ببعض أسواق المدينة، والمواقع الاستراتيجية، غير أن اقبال المواطنين عليها يبقى ضعيفا، أمام نذرة الظاهرة، إذ لا يستبعد أن يكون مصدر تلك المياه الابار، أو صنابير الأحياء، و(ن.د) شاب تخلص من أغلال العطالة، عندما حمل نفسه على مسايرة الظاهرة، ببيع كميات من المياه المنقولة، فخلقت له تجارته توازنا ماديا، تستقر عنده الأرباح في معظم الأحيان على مائة درهم يوميا، وتنتعش تجارته في مناسبات معينة، كشهر رمضان، وفصل الصيف.
الحديث مع بعض المترددين على المنبع المائي، يثير العديد من المفارقات، لأن البعض منهم يقابل ادعاءات فعالية مياه العين في التداوي بنوع من السخرية والاستخفاف، لكنه يصرفي الان نفسه على الاقرار بجودة المياه، لما لها من فوائد لايستوجب مقارنتها بمياه الصنابير، ولا يتردد (ع.م) سائق سيارة أجرة، في استعراض فوائدها عندما يقول: (ماء الجبل خفيف ماشي ثقيل على البطن بحال ماء كريفو، وكيساعد على الهضم، مني كنشربو كنحس بالجوع).
ما يلفت الانتباه، عند محاولة التمحيص في الحالة الاجتماعية والتعليمية للمنساقين وراء الظاهرة، أن هذه الأخيرة تسري في أوساط فئة ذات تعليم جامعي، ترفض التقليص من فعالية الماء، وهكذا تقول أستاذة بالتعليم الثانوي: ( قام فريق من الباحثين في اليابان بتجارب على الماء فوجدوا له خواص علاجية عدة كشرب كأس أو كأسين من الماء صباحا قبل الأكل ب45 دقيقة فهو مفيد لمرضى ارتفاع الضغط وأمراض أخرى، وكل ما كان الماء صافيا أي من الطبيعة كانت النتيجة أحسن، وأكثر من هذا فذرات المياه تتأثر وتتشكل حسب الكلام الذي تردده على الماء).
مصدر طبي أكد أن ماء المنبع لم يخضع لتحليلات طبية تفيد فعاليته أو تدحضها، ورجح الاحتمال الثاني، سيما أن ظاهرة الاستنجاد بمياه الأرض التي تظهر على حين غرة تعرفها مناطق عدة، وسرعان ما يتلاشى لدى الوافدين عليها ذلك الوهم.
أما الدكتورة فندي الصيدلية، فعزت أسباب الظاهرة إلى عاملي الفقر والجهل، حيث تعجز فئة واسعة من الناس ذات الدخل المحدود على مجاراة تكاليف العلاج فتضطر إلى مداهنة النفس بالأمل أو الوهم، كما أن غياب وازع الوعي يلعب دورا كبيرا، عندما تقع نسبة كبيرة من المواطنين ضحية إشاعات تنتشر، فتخلف ضحايا يعيشون على الأوهام.
لم يتخوف الأشخاص الذين التقيناهم، من الراغبين في الحصول على كميات من المياه، من احتمال وجود جراثيم بها، رغم أن المنبع المائي لا يخضع لشروط المعالجة والتحليل، ولا تسهر على مراقبته وحدة متخصصة، بقدر ما كانوا يناصرون بعضهم البعض في الدفاع عن فعاليته في العلاج.