في مشهد يبدو أقرب إلى مسرحية هزلية، خرجت نقابة مفتشي التعليم ببيان غاضب تندد فيه بإعفاء مفتش الشؤون المالية بمديرية فاس، وكأننا أمام كارثة وطنية تهدد كيان الدولة! القرار الذي اتُّخذ وفق المساطر القانونية المعتادة، ووقعه رئيس مصلحة التخطيط بتفويض من مدير الأكاديمية، قوبل بهلع غير مسبوق من النقابة، التي سارعت إلى استنفار أعضائها واستجداء الوزارة للتراجع عنه، وكأن المفتشين فوق المحاسبة، أو أنهم فعلاً “أسياد المنظومة” كما جاء في أحد بياناتهم السابقة!
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا يُعتبر إعفاء مدير مؤسسة تعليمية أو مقتصد أو حارس عام أو أستاذ أمرًا عاديًا يدخل ضمن التدبير الإداري اليومي، بينما يصبح المساس بمفتش واحد “سابقة خطيرة” تستدعي التنديد والاستنكار؟ هل نحن أمام فئة محصنة ضد أي قرار إداري؟ أم أن بعض المفتشين يرون أنفسهم خارج دائرة القانون؟
الأدهى من ذلك، أن هذا القرار، الذي يُفترض أنه شأن إداري داخلي، كشف عن خلل أعمق في تعامل الوزارة والأكاديميات والمديريات الإقليمية مع أطرها. فحين يتعلق الأمر بمفتش، نجد المسؤولين يترددون، يخشون رد فعل النقابة، ويتجنبون اتخاذ أي إجراء، حتى وإن كانت هناك اختلالات واضحة. وهذا يطرح تساؤلًا محرجًا: هل وزارة التربية الوطنية بالفعل تمارس سلطتها على جميع أطرها بنفس الميزان، أم أن هناك من يُحاسب ومن يُترك طليقًا لأن صوته أعلى من غيره؟
وسط هذا الجبن الإداري الذي اعتدناه من المسؤولين، جاءت خطوة رئيس مصلحة التخطيط بمديرية فاس لتكسر هذه القاعدة البائسة. رجل أظهر قوة شخصية وثقة بالنفس، واتخذ قرارًا مسؤولًا دون أن تأخذه رهبة “اللوبيات” أو ضغط النقابات. على عكس العديد من المديرين الإقليميين ومديري الأكاديميات الذين يفضلون التملص من مسؤولياتهم، وتجاهل التجاوزات خوفًا من الدخول في مواجهة مع المفتشين، وكأنهم سلطة عليا لا يجوز الاقتراب منها!
وهنا، لا بد أن تتحمل الوزارة مسؤوليتها الكاملة في التعامل مع جميع الأطر وفق القانون، لا وفق الضغوط والاعتبارات النقابية. فإما أن يكون الجميع سواسية أمام المساءلة، أو أن تعلن الوزارة رسميًا أن هناك فئة فوق القانون، لا تُمسّ ولا تُحاسب! هل نحن أمام منظومة تربوية تديرها الوزارة وفق ضوابط واضحة، أم أمام فئة تستطيع أن تفرض قوانينها الخاصة، وتنتفض بمجرد أن يُتخذ في حق أحدها قرار إداري؟
إن إصرار نقابة المفتشين على تحويل هذا القرار العادي إلى “حدث استثنائي” يكشف حجم الخلل في التوازن داخل المنظومة. فإما أن تتحمل الوزارة والأكاديميات والمديريات مسؤوليتها بصرامة في التعامل مع جميع الأطر على قدم المساواة، وإما أن تستسلم لهذا الابتزاز النقابي الذي يجعل من بعض الفئات “محرمات” لا يجوز المساس بها!
أما نحن، فسننتظر لنرى: هل ستثبت الوزارة أنها تدير قطاع التربية الوطنية فعلاً، أم أنها ستخضع كعادتها لمن يرفع صوته أكثر؟
